كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان منتقلًا من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار، فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعنًا في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلًا في إله العالم، فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته.
وسابعها: أنه تعالى ذكر قبل قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} شيئًا وبعده شيئًا آخر.
أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والارض} وقد بينا أن خلق السموات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة.
وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء: أولها: قوله: {يغشىلليلالنهار يَطلُبُهُ حثيثًا} وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله، وعلى قدرته وحكمته.
وثانيها: قوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} وهو أيضًا من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم.
وثالثها: قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} وهو أيضًا إشارة إلى كمال قدرته وحكمته.
إذا ثبت هذا فنقول: أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم، وآخرها يدل أيضًا على هذا المطلوب، وإذ كان الأمر كذلك فقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} وجب أن يكون أيضًا دليلًا على كمال القدرة والعلم، لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقرًا على العرش كان ذلك كلامًا أجنبيًا عما قبله وعما بعده، فإن كونه تعالى مستقرًا على العرش لا يمكن جعله دليلًا على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضًا من صفات المدح والثناء، لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش، فثبت أن كونه جالسًا على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء، فلو كان المراد من قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} كونه جالسًا على العرش لكان ذلك كلامًا أجنبيًا عما قبله وعما بعده، وهذا يوجب نهاية الركاكة، فثبت أن المراد منه ليس ذلك، بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب.
وثامنها: أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا، والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال: {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وإذا كان الأمر كذلك، فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء، فلو كان إله العالم موجودًا فوق العرش، لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش.
فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقًا لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقًا لنفسه وذلك محال.
وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: {الذى خَلَقَ السموات والأرض} آية محكمة دالة على أن قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} من المتشابهات التي يجب تأويلها، وهذه نكتة لطيفة، ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام: {وَهُوَ الله فىلسموات} [الأنعام: 3] ثم قال بعده بقليل: {قُل لِّمَن مَّا فىلسموات والأرض قُل لِلَّهِ} [الأنعام: 12] فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات، فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكًا لنفسه، وذلك محال فكذا هاهنا، فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز، وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان: الأول: أن نقطع بكونه تعالى متعاليًا عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله، وهو الذي قررناه في تفسير قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه.
والقول الثاني: أن نخوض في تأويله على التفصيل، وفيه قولان ملخصان: الأول: ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال: {العرش} في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد.
وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه، هذا ما قاله القفال.
وأقول: إن الذي قاله حق وصدق وصواب، ونظيره قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد، وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيبًا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها، إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هاهنا يذكر الاستواء على العرش، والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة، ثم قال القفال رحمه الله تعالى: والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله، إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة، وإذا قال: قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات، وتكوين الممكنات، ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد، والتكوين عن الآلات والأدوات، وسبق المادة والمدة والفكرة والروية، وهكذا القول في كل صفاته، وإذا أخبر أن له بيتًا يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعًا يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه، وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنًا لنفسه، ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه، فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه، ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع، ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش، أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد، فكان قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال.
ثم قال القفال: والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبّرُ الأمر} [يونس: 3] فقوله: {يُدَبّرُ الامر} جرى مجرى التفسير لقوله: {استوى عَلَى العرش} وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِى الليل النهارَ يطلبهُ حثيثًا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر} وهذا يدل على أن قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} إشارة إلى ما ذكرناه.
فإن قيل: فإذا حملتم قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} على أن المراد: استوى على الملك، وجب أن يقال: الله لم يكن مستويًا قبل خلق السموات والأرض.
قلنا: إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادرًا على تخليقها وتكوينها وما كان مكونًا ولا موجودًا لها بأعيانها بالفعل، لأن إحياء زيد، وإماتة عمرو، وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال، فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال، صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات والأرض، وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع.
والوجه الثاني: في الجواب أن يقال: استوى بمعنى استولى، وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا.
والوجه الثالث: أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى: علا واستعلى على الملك فيكون المعنى: أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت، واعلم أنه تعالى ذكر قوله: {استوى عَلَى العرش} في سور سبع.
إحداها: هاهنا.
وثانيها: في يونس.
وثالثها: في الرعد.
ورابعها: في طه.
وخامسها: في الفرقان.
وسادسها: في السجدة.
وسابعها: في الحديد، وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة، فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغًا كثيرًا وافيًا بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر.
أما قوله: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص {يُغْشِى} بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد، وفي الرعد هكذا.
قال الواحدي رحمه الله: الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف، فمن التشديد قوله تعالى: {فغشاها مَا غشى} [النجم: 54] ومن اللغة الثانية قوله: {فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية.
المسألة الثانية:
قوله: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا} يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار، وأن يكون المراد النهار بالليل، واللفظ يحتملهما معًا وليس فيه تغيير، والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا} بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله: أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أراهم ذلك عيانًا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر، وتزول الشبه عن كل الجهات، فقال: {يغشي الليل النهار} لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة، والفوائد الجليلة، فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة.
المسألة الثالثة:
قوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} قال الليث: الحث: الإعجال، يقال: حثثت فلانًا فأحتث، فهو حثيث ومحثوث، أي مجد سريع.
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة، وذلك هو الحق، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات.
قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ونظير هذه الآية قوله سبحانه: {لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء، والمقصود: التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها.
ثم قال تعالى: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ ابن عامر {والشمس والقمر والنجوم مسخرات} بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر، قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى: {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم} وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا فِي الأرض} [الجاثية: 13] ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيدًا استقام أن تقول زيد مضروب.